فصل: سنة خمس وتسعين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة أربع وتسعين ومائة وألف:

فيها في يوم الخميس حادي عشر صفر دخل الحجاج إلى مصر وأمير الحاج مراد بك ووقف لهم العربان في الصفرة والجديدة وحصروا الحجاج بين الجبال وحاربوهم نحو عشر ساعات، ومات كثير من الناس والغزو الأجناد ونهبت بضائع وأحمال كثيرة وكذلك من الجمال والدواب، والعرب بأعلى الجبال والحج أسفل كل ذلك والحج سائر.
وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب، اجتمع الأمراء وأرسلوا إلى الباشا أرباب العكاكيز وأمروه بالنزول من القلعة معزولاً، فركب في الحال ونزل إلى مصر العتيقة ونقلوا عزاله ومتاعه في ذلك اليوم واستلموا منه الضربخانة وعمل إبراهيم بك قائمقام مصر. فكانت مدة ولاية إسمعيل باشا في هذه المرة ثمانية أشهر تنقص ثلاثة أيام، وكان أصله رئيس الكتاب باسلامبول من أرباب الأقلام. وكان مراد بك هذا أصهل من مماليكه فباعه لبعض التجار في معارضة وحضر إلى مصر ولم يزل حتى صار أميرها. وحضر سيده هذا في أيام إمارته وهو الذي عزله من ولايته ولكن كان يتأدب معه ويهابه كثيراً ويذكر سيادته عليهن وكان هذا الباشا أعوج العنق للغاية، وكان قد خرج له خراج فعالجه بالقطع فعجزت العروق وقصرت فاعوج عنقه وصارت لحيته عند سدره ولا يقدر على الالتفات إلا بكليته إلا أنه كان رئيساً عاقلاً صاحب طبيعة ويجب المؤانسة والمسامرة. ولما حضر إلى مصر وسمع بأوصاف شيخنا الشيخ محمود الكردي أحبه واعتقده وأرسل له هدية وأخذ عليه العهد بواسطة صديقنا نعمان أفندي وكان به آنساً، وقلده أمين الضربخانة. ولما أخذ العهد على الشيخ أقلع عن استعمال البرش وألقاه بظروفه وقلل من استعمال الدخان. وكان عنده أصناف الطيور المليحة الأصوات، وعمل بستاناً لطيفاً في الفسحة التي كانت بداخل السراية وزرع بها أصناف الزهور والغرس والورد والياسمين والفل، وبوسطه قبة على أعمدة لطيفة من الرخام وحولها حاجز من السلك النحاس الرفيع الأصفر وبداخلها كثير من عصافير القنارية، وعمل لهم أوكاراً يأوون إليها ويطيرون صاعدين هابطين بداخل القبة، ويطرب لأصواتهم اللطيفة وأنغامهم العذبة، وذلك خلاف ما في الأقفاص المعلقة في المجالس، وتلك الأقفاص كلها بديعة الشكل والصنعة. ولما أنزله على هذه الصورة انتهب الخدم تلك الطيور والأقفاص وصاروا يبيعونها في أسواق المدينة على الناس.
وفي يوم الجمعة عاشر شعبان الموافق لسابع مسرى القبطي، أوفى النيل المبارك وكسر السد في صبحها يوم السب بحضرة إبراهيم بك قائمقام مصر والأمراء.
وفي أواخر شعبان، شرع الأمراء في تجهيز تجريدة وسفرها إلى جهة قبلي لاستفحال أمر حسن بك ورضوان بك، فإنه انضم إليهم كثير من الأجناد وغيرهم، وذهب إليهم جماعة إسمعيل بك وهم إبراهيم بك قشطة وعلي بك الجوخدار وحسين بك وسليم بك من خلف الجبل، فعندما تحققوا ذلك أخذوا في تجهيز تجريدة وأميرها مراد بك وصحبته سليمان بك أبو نبوت وعثمان بك الأشقر ولاجين بك ويحيى بك وطلبوا الاحتياجات واللوازم وحصل منهم الضرر، وطلب مراد بك الأموال من التجار وغيرهم مصادرة وجمعوا المراكب وعطلوا الأسباب وبرزوا بخيامهم إلى جهة البساتين.
وفيه حضر من الديار الرومية أمير أخور وعلى يده تقرير لإسمعيل باشا على السنة الجديدة، فوجده معزولاً وأنزلوه في بيت بسويقة العزى.
وفي يوم الخميس عشرين شوال، وكان خروج المحمل والحجاج صحبة أمير الحج مصطفى بك الصغير.

.من مات في هذه السنة من الأئمة والأعيان:

مات السيد الأجل الوجيه الفاضل السيد محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن مصطفى بن القطب الكبير سيدي محمد دمرداش الخلوتي، ولد بزاوية جده ونشأ بها، ولما توفي والده السيد عثمان جلس مكانه في خلافتهم وسار سيراً حسناً مع الأبهة والوقار وتردد الأفاضل إليه على عادة أسلافه. وكان يعاني طلب العلم مع الرفاهية وبعض الخلاعة، ولازم المرحوم الوالد هو وأولاده السيد عثمان والسيد محمد المتولي إلا آن في مطالعة الفقه الحنفي وغيره في كل يوم بالمنزل ويحضرون أيضاً بالأزهر وعلى الأشياخ المترددين عليهم بالزاوية مثل الشيخ محمد الأمير والشيخ محمد العروسي والشيخ محمد بن إسمعيل النفراوي والشيخ محمد عرفة الدسوقي وغيرهم، وكان إنساناً حسن العشرة والمودة. توفي في رابع عشر رمضان من السنة ودفن بزاويتهم عند أسلافهم.
ومات الفقيه النبيه المتقن المتفنن الأصولي النحوي المعقولي الجدلي الشيخ مصطفى المعروف بالريس البولاقي الحنفي كان في الأصل شافعي المذهب، ثم تحنف وتفقه على الشيخ الاسقاطي والسيد سعودي والدلجي وحضر المعقولات على الشيخ علي الصعيدي والشيخ علي قايتباي والإسكندراني، وكان ملازماً للسيد سعودي، فلما توفي لازم ولده السيد إبراهيم ولم تطل أيامه، فلما مات لازم الشيخ الوالد حسن الجبرتي ملازمة كلية في المدينة وبولاق وكان يحبه لنجابته واستحضاره ونوه بشأنه ولاحظه بأنظاره وأخذ له تدريس الحنفية بجامع السنانية وجامع الواسطي، وعاونه في أمور من الأحكام العامة ببولاق حتى اشتهر ذكره بها وعظم شأنه عند أهلها، وصار بيته مثل المحكمة في القضايا والدعاوى والمناكحات والخصومات، وكان فيه شهامة وقوة جنان وصلابة رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ومات الولي الصالح الفاضل الشيخ عبد الله بن محمد بن حسين السندي نزيل المدينة المنورة المشهور بجمعة، حضر دروس الشيخ محمد حياة السندي وغيره من الواردين وجاور بالمدينة نحواً من أربعين سنة، وانتفع به طلبة المدينة واشتهرت بركنه. فكل من قرأ عليه شيئاً فتح الله عليه وصار من العلماء وكان ذا كرم ومروءة وحياء وشفقة، توفي في هذه السنة.
ومات الشيخ الصالح الوجيه أحمد بن عبد الله الرومي الأصل المصري المكتب الخطاط الملقب بالشكري، جود الخط على جماعة من المشاهير ومهر فيه حتى برع وأجيز وأجاز على طريقتهم، ونسخ بيده عدة مصاحف ودلائل الخيرات وغير ذلك، وانتفع به الناس انتفاعاً عاماً، واشتهر خطه في الآفاق وأجاز لجماعة وكان وجيهاً منور الشيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى، نظيف الثياب حسن الأخلاق مهذباً متواضعاً. توفي عشية يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.

.سنة خمس وتسعين ومائة وألف:

في منتصف المحرم قبض إبراهيم بك على إبراهيم أغا بيت المال المعروف بالمسلماني وضربه بالنبابيت حتى مات وأمر بإلقائه في بحر النيل، فألقوه، وأخرجه عياله بعد أيام من عند شبر أفاتوا به إلى بيته وغسلوه وكفنوه ودفنوه ولم يعلم لذلك سبب.
وفي يوم السبت سادس عشر صفر، نزل الحجاج ودخلوا إلى مصر صحبة المحمل وأمير الحاج مصطفى بك في يوم الثلاثاء تاسع عشرة.
وفيه جاءت الإخباريات إسمعيل بك وصل من الديار الرومية إلى ادرنه وطلع من هناك، ويمل يزل يتحيل حتى خلص إلى الصعيد وانضم إلى حسن بك ورضوان بك وباقي الجماعة.
وفي أواخر شهر صفر وصلت الأخبار من ناحية قبلي بأن مراد بك خنق إبراهيم بك أوده باشا قيل أنه اتهمه بمكاتبات إلى إسمعيل بك وحبس جماعة آخرين خلافه.
وفيه وصلت الأخبار بورود باشا إلى ثغر سكندرية والياً على مصر وهو محمد باشا ملك.
وفي سادس جمادى الأولى وصل مراد بك ومن معه إلى مصر وصحبنه إبراهيم بك قشطة صهر إسمعيل بك وسليم بك أحد صناجق إسمعيل بك بعدما عقد الصلح بينه وبينهم، وأحضر هؤلاء صحبته رهائن، وأعطى لإسمعيل بك اخميم وأعمالها وحسن بك قنا وقوص وأعمالها ورضوان بك اسنا، ولم تم الصلح بينه وبينهم على ذلك أرسل لهم هدايا وتقادم وأحضر صحبته من ذكر، فكانت مدة غيابه ثمانية أشهر وأياماً، ولم يقع بينهم مناوشات ولا حرب بل كانوا يتقدمون بتقدمه ويتأخرون بتأخره حتى تم ما تم.
وفي منتصف شهر جمادى الأولى سافر علي أغا كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وباقي أرباب الخدم لملاقاة الباشا.
وفي غرة شهر رجب وصل الباشا إلى بر انبابة وبات هناك، وعدت الأمراء في صبحها للسلام عليه، ثم ركب إلى العادلية.
وفي يوم الاثنين ركب الباشا بالموكب من العادلية ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وطلع إلى القلعة، وضربوا له المدافع من باب الينكرجية وكان وجيهاً جليلاً منور الوجه والشيبة.
وفي يوم الخميس عملوا الديوان وحضر الأمراء والمشايخ وقرئ التقليد بحضرتهم، وخلع على الجميع الخلع المعتادة.
وفي يوم الأحد المبارك، ليلة النصف من شعبان الموافق لأول مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك، ونزل الباشا وكسروا السد بحضرته على العادة صبح يوم الاثنين.

.من مات في هذه السنة من الأئمة والأعيان:

توفي شيخنا الإمام العارف كعبة كل ناسك عمدة الواصلين وقدوة السالكين صاحب الكرامات الظاهرة والإشارات الباهرة شخينا وأستاذنا الشيخ محمود الكردي الخلوتي، حضر إلى مصر متجرداً مجاهداً مجتهداً في الوصول إلى مولاه زاهداً كل ما سوأه فأخذ العهد وتلقن الذكر من الأستاذ شمس الدين الحفني وقطع الأسماء وتنزلت عليه الأسرار وسطعت على غرته الأنوار وأفيض على نفسه القدسية أنواع العلوم المدنية. وله رسالة في الحكم ذكر أن سبب تأليفه لها أنه رأى الشيخ محي الدين العربي رضي الله عنه في المنام أعطاه مفتاحاً وقال له: افتح الخزانة. فاستيقظ وهي تدور على لسانه ويرد على قلبه أنه يكتبها. قال: فكنت كلما صرفت الوارد عني عاد إلي فعلمت أنه أمر إلهي فكتبتها في لمحة يسيرة من غير تكلف، كأنما هي تملي على لساني من قلبي، وقد شرحها خليفته شيخ الإسلام والمسلمين سيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر شرحاً لطيفاً جامعاً مانعاً، استخرج به من كنوز معانيها ما أخفاها، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وشرحها أيضاً أحد خلفائه الأستاذ العلامة السيد عبد القادر بن عبد اللطيف الرافعي البياري العمري الحنفي الطرابلسي شكر الله صنيعهما، ذكر في أولها ترجمة الأستاذ كما سمعه من لفظه أن مولده ببلدة صاقص من بلاد كوران ونشأ في المجاهدة وهو ابن خمس عشرة سنة، صائم الدهر محيي الليل كله في مسجد ببلدته معروف حتى اشتهر أمره وقصده الناس بالزيارة، فهجر ذلك المكان وصار يأوى الخراب خارج بلدته بحيث لا يشعر به أحد. وأخبرني غير مرة أنه كان لا يغمه بالليل إلا سماع صوت الديكة لإنذارها بطلوع النهار لما يجده في ليله من المواهب والأسرار. وكان جل نومه في النهار، وكثيراً ما كان يجتمع بالخضر عليه السلام فيراه بمجرد ما ينام فيذكر الله معه حتى يستيقظ. وكان لا يفتر عن ذكر الله لا نوماً ولا يقظة. وقال مرة: جميع ما في كتب إحياء العلوم للغزالي عملت به قبل أن أطالعه، فلما طالعته حمدت الله تعالى على توقيفه إياي وتوليته تعليمي من غير معلم. وكان كثير التقشف من الدنيا يأكل خبز الشعير، وفي بيته يصنع خاص دقيق البر وكثيراً ما كان يلومه أخوه على ذلك، وكان أخوه الكبير كثير اللوم له على ما يفعله من مجاهداته وتقشفاته. ولما مات والده ترك ما يخصه من إرثه لهم، وكان والده كثير المال والخير وعليق دوابه في كل ليلة أكثر من نصف غرارة من الشعير. ولما صار عمره ثمان عشرة سنة رأى في منامه الشيخ محمد الحفناوي، فقيل له: هذا شيخك، فتعلق قلبه به وقصده بالرحلة حتى قدم مصر واجتمع به وأخذ عنه الطريق الخلوتية وسلك على يديه بعد أن كان على طريقة القصيري رضي الله عنه. وقال له في مبدأ أمره: يا سيدي إني أسلك على يديك ولكن لا أقدر على ترك أوراد الشيخ علي القصيري فأقرأ أوراده وأسلك طريقتك. فأجابه الشيخ إلى ذلك ولم يشدد عليه في ترك أوراد الشيخ القصيري لما عرفه من صدقه مع المذكور، فلازمه مدة طويلة ولقنه أسماء الطريقة السبعة في قطع مقاماتها، وكتب له إجازة عظيمة شهد له فيها بالكمال والترقي في مقامات الرجال وأذن له بالإرشاد وتربية المريدين. فكان الشيخ في آخر أمره إذا أراد أحد أن يأخذ عنه الطريق يرسله إلى الشيخ محمود ويقول لغالب جماعته: عليكم بالشيخ محمود فإني لولا أعلم من نفوسكم ما أعلم لأمرتكم كلكم بالأخذ عنه والانقياد له. ولما قدم شيخ شيخه السيد مصطفى البكري لازمه وأخذ عنه كثيراً من علم الحقائق، وكان كثير الحب فيه، فلما رآه لا يقرأ أوراد الطريقة الخلوتية ويقتصر على أوراد القصيري عاتبه في ذلك وقال له: أيليق بك أن تسلك على أيدينا وتقرأ أوراد غيرنا، إما أن تقرأ أورادنا أو أن تتركنا. فقال: يا سيدي أنتم جعلكم الله رحمة للعالمين وأنا أخاف من الشيخ القصيري إن تركت أوراده وشيء لازمته في صغري لا أحب أن أتركه في كبري. فقال له السيد البكري: استخر الله وانظر ماذا ترى لعل الله يشرح صدرك. قال: فاستخرت الله العظيم، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم والقصيري عن يمينه والسيد البكري عن يساره، وأنا تجاههم، فقال القصيري للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أليست طريقتي على طريقتك أليست أورادي مقتبسة من أنوارك فلم يأمر السيد البكري هذا بترك أورادي، فاقل السيد البكري يا رسول الله رجل سلك على أيدينا وتولينا تربيته أيحسن منه أن يقرأ أوراد غيرنا ويهجر أورادنا، فقال الرسول عليه السلام لهما اعملا فيه القرعة واستيقظ الشيخ من منامه فأخبر السيد البكري فقال له السيد معنى القرعة انشراح صدرك انظره واعمل به، قال الشيخ رضي الله عنه: ثم بعد ليلة وأكثر رأيت سيدي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في المنام وهو يقول لي يا محمود خليك مع ولدي السيد مصطفى ورأى ورد سحر الذي ألفه المذكور مكتوباً بين السماء والأرض بالنور المجسم كل حرف منه مثل الجبل، فشرح الله بعد ذلك صدره ولازم أوراد السيد البكري وأخذ من أوراد القصيري ما استطاع. وأخبر رضي الله عنه أنه رأى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض المرائي وكان جمع الفقراء في ليلة مباركة وذكر الله تعالى بهم إلى الفجر وكان معه شيء قليل من الدنيا فورده على قلبه وارد زهد ففرق ما كان معه على المذكورين، وفي أثناء ذلك صرخ من بيان الجاعة صارخ يقول الله بحال قوي، فلما فرغوا قال للشيخ يا سيدي سمعت هاتفاً يقول يا شيخ محمود ليلتك قبلت عند الله تعالى، قال ثم إني بعدما صليت الفجر نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي يا شيخ محمود ليلتك قبلت عند الله تعالى وهات يدك حتى أجازيم، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد الشيخ والسيد البكري حاضر بالمجلس فأخذ يده ووضع يده الشريفة بين يديهما وقال أريد أن أخاوي بينك وبين السيد البكري وأتخاوى معكما، الناجي منا يأخذ بيد أخيه، فاستيقظ فرحاً بذلك فلم يلبث إلا يسيراً ورسول السيد البكري يطلبه فتوضأ وذهب إلى زيارته، وكان من عادته أنه يزوره كل يوم ولا يدخل عليه إلا على طهارة، فلما رآه قال له ما أبطاك اليوم عن زيارتنا فقال له يا سيدي سهرنا البارحة الليل كله فنمت وتأخرت عنكم، فقال له السيد هل من بشارة أو إشارة فقلت يا سيدي البشارة عندكم، فقال قل ما رأيت، قال فتعجبت من ذلك وقلت يا سيدي رأيت كذا وكذا، فقال يا ملا محمود منامك حق وهذه مبشرة لنا ولك فإنه صلى الله عليه وسلم ناج قطعاً ونحن ببركته ناجون، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة لا تحصر. وكان كثير المرأى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما تمر به ليلة إلا ويراه فيها وكثيراً ما يرى رب العزة في المنام، ورآه مرة يقول له يا محمود إني أحبك وأحب من يحبك فكان رضي الله عنه يقول من أحبني دخل الجنة. وقد أذن لي أن أتكلم بذلك وأما مجاهداته فالديمة المدرار كما قالت عائشة رضي الله عنها في جنابه صلى الله عليه وسلم، كان عمله ديمة وأيكم يستطيع عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبلغ من مجاهداته رضي الله عنه أنه لما ضعف عن القيام في الصلاة لعدم تماسكه بنفسه صنع له خشبة قائمة يستند عليها، ولم يدع صلاة النقل قائماً فضلاً عن الفرض، ولم يدع صلاة الليل والوظائف التي عليه مرتبة في حال من الأحوال، وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً وكان ربما بمضي عليه الليل وهو يبكي، وربما تمر عليه الليلة كلها وهو يرد آية من كتاب الله تعالى. وكثيراً ما كان يقتصر على الخبز والزيت ويؤكل في بيته خواص الأطعمة، وكان غالب أكله الرز بالزيت وتارة بالسمن البقري وقل ما تراه في خلوته أو مع أصحابه إلا وهو مشغول في وظائف أوراد. وقال لي مرة ربما أكون مع أولادي ألاعبهم وأضاحكهم وقلبي في العالم العلوي في السماء الدنيا أو الثانية أو الثالثة أو العرش، وكثيراً ما كان تفيض على قلبه معرفة الحق سبحانه وتعالى فيجعل يبكي ولا يشعر به جليسه. وقلت يوماً للعارف بالله تعالى خليفته سيدي محمد يدير القدسي من كرامات الأستاذ أنه لا يسمع شيئاً من العلم إلا حفظه ولا يزول من ذهنه ولو بعد حين، فقال لي رضي الله عنه بل الذي يعد من كرامات الشيخ أنه لا يسمع شيئاً من العلم النافع إلا ويعمل به في نفسه ويداوم عليه. فقلت صدقت هذا والله حاله وكنت مرة أسمعته رياض الرياحين لليافعي فلما أكملته قال لي بمحضر من أصحابه هل يوجد الآن مثل هؤلاء الرجال المذكورين في هذا الكتاب تكون لهم الكرامات، فقال له بعض الحاضرين الخير موجود يا سيدي في أمة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الشيخ وقد وقع لي في الطريق أبلغ من ذلك، وأحكي لكم عما وقع لي في ليلتي هذه: كنت قاعداً أقرأ في أورادي فعطشت وكان الزمن مصيفاً والوقت حاراً وأم الأولاد نائمة، فكرهت أن أوقظها شفقة عليها، فما استتم هذا الخاطر حتى رأيت الهواء قد تجسم لي ماء حتى صرت كأني في غدير من الماء، وما زال يعلو حتى وصل إلى فمي فشربت ماء لم أشرب مثله، ثم أنه هبط حتى لم يبق قطرة ماء ولم يبتل مني شيء. وبردت ليلة في ليالي الشتاء برداً شديداً وأنا قاعد أقرأ في وردي وقد سقط عني حرامي الذي أتغطى به، وكان إذا سقط عنه غطاؤه لا يستطيع أني رفعه بيده لضعف يده، قال فأردت أن أوقظ أم الأولاد فأخذتني الشفقة عليها فما تم هذا الخاطر حتى رأيت كانوناً عظيماً ملآناً من الجمر وضع بين يدي وبقي عندي حتى دفئ بدني وغلب وهج النار علي، فقلت في سري هذه النار حسية أم هي خيال فقربت إصبعي منها فلذعتني فعلمت أنها كرامة من الله تعالى، ثم رفعت. والحاصل أن مناقبه رضي الله عنه لا تكاد تنحصر، وكان لكلامه وقع في النفوس عظيم إذا تكلم كأنما كلماته خرزات نظمن في جيد حسناء لا ينطق إلا بحكمة أو موعظة أو مسائل دينية أو حكاية تتضمن جواباً عن سؤال يسأله بعض الحاضرين بقلبه، ولا تكاد تسمع في مجلسه ذكر أحد بسوء وكان كثير الشفقة والرحمة على خلق الله لا سيما أرباب الذنوب والمعاصي، كثير التواضع كثير الإحسان للفقراء والمساكين لا يمسك من الدنيا شيئاً، جميع ما يأتيه ينفقه في طاعة الله. ما أمسك بيده درهماً ولا يناراً قط آخذاً بالورع في جميع أموره ليس له هم إلا أمور الآخرة لا يهتم لشأن الدنيا أقبلت أو أدبرت، كفاه الله مؤنة الدنيا، عنده خادم يقبض ما يأتي له من الدنيا ويصرف عليه فلا يزيد ذلك على حاجته ولا ينقص شيئاً، قال السيد شارح الرسالة خدمته نحو عشر سنوات ما رأيته ارتكب صغيرة قط وللأستاذ رضي الله عنه رسالة سماها السلوك لأبناء الملوك، وهي صورة مكتوب من إملائه أرسله إلى رجل من أعيان المغرب يقال له ابن الظريف، وكان الشيخ رضي الله عنه أرسل له جواباً عن مكاتبة أرسلها فأرسل مراسلة أخرى والتمس الجواب، يكون متضمناً بعض النصائح، فأملى تلك المراسلة فبلغت نحو ستة كراريس وصارت كتاباً عظيم النفع سارت به الركبان وانتفع به القاصي والداني، وكتب عليه كثير من العلماء وكانت وفاة الأستاذ رضي الله عنه ثالث المحرم من هذه السنة، وتولى غسله الشيخ سليمان الجمل، وصلي عليه بالأزهر، ودفن بالصحراء بجوار السيد مصطفى البكرى رضي الله عنهما. فكرهت أن أوقظها شفقة عليها، فما استتم هذا الخاطر حتى رأيت الهواء قد تجسم لي ماء حتى صرت كأني في غدير من الماء، وما زال يعلو حتى وصل إلى فمي فشربت ماء لم أشرب مثله، ثم أنه هبط حتى لم يبق قطرة ماء ولم يبتل مني شيء. وبردت ليلة في ليالي الشتاء برداً شديداً وأنا قاعد أقرأ في وردي وقد سقط عني حرامي الذي أتغطى به، وكان إذا سقط عنه غطاؤه لا يستطيع أني رفعه بيده لضعف يده، قال فأردت أن أوقظ أم الأولاد فأخذتني الشفقة عليها فما تم هذا الخاطر حتى رأيت كانوناً عظيماً ملآناً من الجمر وضع بين يدي وبقي عندي حتى دفئ بدني وغلب وهج النار علي، فقلت في سري هذه النار حسية أم هي خيال فقربت إصبعي منها فلذعتني فعلمت أنها كرامة من الله تعالى، ثم رفعت. والحاصل أن مناقبه رضي الله عنه لا تكاد تنحصر، وكان لكلامه وقع في النفوس عظيم إذا تكلم كأنما كلماته خرزات نظمن في جيد حسناء لا ينطق إلا بحكمة أو موعظة أو مسائل دينية أو حكاية تتضمن جواباً عن سؤال يسأله بعض الحاضرين بقلبه، ولا تكاد تسمع في مجلسه ذكر أحد بسوء وكان كثير الشفقة والرحمة على خلق الله لا سيما أرباب الذنوب والمعاصي، كثير التواضع كثير الإحسان للفقراء والمساكين لا يمسك من الدنيا شيئاً، جميع ما يأتيه ينفقه في طاعة الله. ما أمسك بيده درهماً ولا يناراً قط آخذاً بالورع في جميع أموره ليس له هم إلا أمور الآخرة لا يهتم لشأن الدنيا أقبلت أو أدبرت، كفاه الله مؤنة الدنيا، عنده خادم يقبض ما يأتي له من الدنيا ويصرف عليه فلا يزيد ذلك على حاجته ولا ينقص شيئاً، قال السيد شارح الرسالة خدمته نحو عشر سنوات ما رأيته ارتكب صغيرة قط وللأستاذ رضي الله عنه رسالة سماها السلوك لأبناء الملوك، وهي صورة مكتوب من إملائه أرسله إلى رجل من أعيان المغرب يقال له ابن الظريف، وكان الشيخ رضي الله عنه أرسل له جواباً عن مكاتبة أرسلها فأرسل مراسلة أخرى والتمس الجواب، يكون متضمناً بعض النصائح، فأملى تلك المراسلة فبلغت نحو ستة كراريس وصارت كتاباً عظيم النفع سارت به الركبان وانتفع به القاصي والداني، وكتب عليه كثير من العلماء وكانت وفاة الأستاذ رضي الله عنه ثالث المحرم من هذه السنة، وتولى غسله الشيخ سليمان الجمل، وصلي عليه بالأزهر، ودفن بالصحراء بجوار السيد مصطفى البكرى رضي الله عنهما.
ومات الأديب الماهر واللبيب الشاعر الشيخ علي بن عنتر الرشيدي، كان متضلعاً فصيحاً مفوهاً له موشحات ومقاطيع كثيرة، ونظم البحور الستة عشر كلها بالاقتباس، منها قوله في الطويل:
أطلت الجفا فأسمح بوصلك يا رشا ** ولا تبدلن وعد الكئيب بضده

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ** ولا تحسبن الله مخلف وعده

وقال في المديد ومنه الاكتفاء:
في مديد الهجر قال اللواحي ** دع هواه فالغرام جنون

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن ** واصطبر عن حبه قلت كونوا

وقال في الرجز:
كملت محاسن منيتي فهديت في ** روض غدا في وجنتيه نضيرا

متفاعلن متفاعلن متفاعلن ** وكفى بربك هادياً ونصيرا

وقال في الرجز:
ارجزفاني في هوى حلو اللما ** مسى الورى أضحيت صبا هائما

مستفعلن مستفعلن مستفعلن ** إن قل صبري قال صبر قل وما

وقال في الوافر:
بوافر لوعتي صل يا غزالي ** فكل متيم فإن وبالي

مفاعلتن مفاعلتن فعولن ** ويبقى وجه ربك ذو الجلال

وقال في البسيط:
بسطت في شادن حلو اللما غزلي ** وقلت جدلي بوصل منك يا أملي

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ** فقال لي خلق الإنسان من عجل

وقال في الرمل:
قد رملت الوصف فيه قائلاً ** مذبداً الهندى من أهدا به

فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ** قل هو الرحمن آمنا به

وقال في الخفيف:
خفف الهجر عن فؤاد كليم ** وامل كاس الوصال لي يا نديمي

فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ** وتوكل على العزيز الرحيم

وله ديوان شعر مشهور ولم يزل حتى مات بالثغر في ربيع الأول من السنة.
ومات الشيخ الصالح الدين بقية السلف ونتيجة الحلف الشيخ أحمد ابن محمد بن أحمد بن عبد المنعم بن أبي السرور البكري الشافعي شيخ سجادة البكرية بمصر، كان صاحب همة ومروءة وديانة وعفاف ومحبة وإنصاف، وتولى بعد موت أبيه فسار سيراً وسطاً مع صفاء الباطن، وكان الغالب عليه الجذب والصلاح والسلوك على طريق أهل الفلاح مع أوراد وأذكار يشتغل بها، توفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الثاني من السنة، وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن عند أسلافه قرب مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه.
ومات الإمام الفصيح المعتقد الشهير الذكر الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبد السلام الرئيس الزمزمي المكي الشافعي مؤقت حرم الله الأمين، ولد بمكة سنة 1110 وسمع من ابن عقيلة وعمر بن أحمد بن عقيل والشيخ سالم البصري والشيخ عطاء الله المصري وابن الطيب، وحضر على الشيخ أحمد الأشبولي الجامع الصغير وغيره، وأخذ عن السيد عبد الله ميرغني ومن الورادين من أطراف البلاد كالشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ عمر الدعوجي والشيخ أحمد الجوهري، وأجازه شيخنا السيد عبد الرحمن العيدروس بالذكر على طريقة السادة النقشبندية، وألف باسمه رسالة سماها البيان والتعليم لمتبع ملة إبراهيم ذكر فيها سنده، وأجازه السيد مصطفى البكري في الخلوتية وجعله خليفته في فتح مجالس الذكر وفي ورد سحر، ولازم المرحوم الوالد حسن الجبرتي سنة مجاورته بمكة وهي سنة خمس وخمسين ملازمة كلية، وأخذ عنه علم الفلك والأوفاق والاستخراجات والرسم وغير ذلك، ومهر في ذلك واقتنى كتباً نفيسة في سائر العلوم بددها أولاده من بعده وباعوها بأبخس الأثمان. وكان عنده من جملة كتبه زيج الراصد الغيبك السمقرندي نسخة شريفة بخط العجم، في غاية الجودة والصحة والإتقان، وعليها تقييدات وتحريرات وفوائد شريفة لا يسمح الدهر بمثل تلك النسخة، وكنت كثيراً ما أسمع من المرحوم الوالد ذكرها ومدحتها ونسخة الوالد مكتوب عليها بخط رستم شاه ما نصه: قد اشترينا هذا الكتاب في دار سلطنة هراة باثني عشر ألف دينار. وتحت ذلك اسمه وختمه. فلما كان في سنة ست وتسعين ورد علينا بعض الحجاج الجزائرية وسألني عن كتب يشتريها من جملتها الزيج المذكور وأرغبني في زيادة الثمن فلم تسمح نفسي بشيء من ذلك، ثم سافر إلى الحج ورجع وأتاني ومع خادمه رزمة كبيرة فوضعها بين أيدينا وفتحها وأخرج منها نسخة الزيج المذكورة وفرجني عليها وقال: أيهما أحسن نسختك التي ضننت بها أو هذه. وكنت لم أرها قبل ذلك فرأيتها شقيقتها وتزيد عنها في الحسن بصغر حجمها وكثرة التقييدات بهامشها وطيارات كثيرة بداخلها في المسائل المعضلة مثل التسييرات والانتهاءات والنمودارات وغير ذلك، وجميعها بحسن الخط والوضع، فرأيتها المخدرة التي كشف عنها القناع وإنما هي المعشوقة بالسماع، فقلت له: كيف وصلت إلى هذه اليتيمة وما مقدار ما دفعته فيها من المهر والقيمة. فأخبرني أنه اشتراها من ابن الشيخ بعشرين ريالاً وكتاب المجسطي وكتاب التبصرة وشرح التذكرة ونسخة البارع في غاية الجودة وزيج ابن الشاطر وغير ذلك من الكتب التي لا توجد في خزائن الملوك، وكلها بمثل ذلك الثمن البخس. فقضيت أسفاً وأخذ الجميع مع ما أخذ وذهب إلى بلاده. وهكذا حال الدنيا، ولم يزل المترجم على حالة حميدة واشتهر أمره في الآفاق وعرف بالصلاح والفضل وأتته الهدايا والمراسلات من جميع الأطراف والجهات حتى لحق بربه عز وجل سابع عشر ربيع الأول من السنة.
ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن محمد الباقاني الشافعي النابلسي سمع الأولية من محمد بن محمد الخليلي ورافق الشيخ السفاريني في بعض شيوخه من أهل البلد، وأجازه السيد مصطفى البكري في الورد والطريقة، ورد مصر أيام توليه المرحوم مصطفى باشا طوقان وكان له مذاكرة حسنة وورع وصلاح وعبادة، وانتفع به الطلبة في بلاده ثم عاد إلى بلاده فتوفي في ثالث جمادى الثانية.
ومات الأجل المفوه الشريف الفاضل السيد حسين بن شرف الدين ابن زين العابدين بن علاء الدين بن شرف الدين بن موسى بن يعقوب ابن شرف الدين بن يوسف بن شرف الدين بن عبد الله بن أحمد أبي ثور ابن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار الثوري المقدسي الحنفي جده الأعلى أحمد بن عبد الله دخل حين فتح بيت المقدس راكباً على ثور، فعرف بأبي ثور وأقطعه الملك العزيز عثمان بن يوسف بن أيوب ديرمار يقوص وبه دفن، وذلك في سنة خمسمائة وأربعة وتسعين، وجده الأدنى زين العابدين أمه الشريفة راضية بنت السيد محب الدين محمد بن كريم الدين عبد الكريم ابن داود بن سليمان بن محمد بن داود بن عبد الحافظ بن أبي الوفاء محمد بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن السيد زكي الدين سالم الحسيني الوفائي البدري المقدسي، ومن هنا جاء لحفيده المترجم الشرف وهي أخت الجد الرابع للسيد علي المقدسي ويعرف المترجم أيضاً بالعسيلي، وكأنه من طرف الأمهات ولد ببيت المقدس وبها نشأ وقرأ شيئاً من المبادئ، ثم ارتحل إلى دمشق، فحضر دروس الشيخ إسمعيل العجلوني ولازمه وأجازه بمروياته وجود الخط على مستعد زاده، فمهر فيه وكتب بخطه أشياء ودخل مصر ونزل في رواق الشوام بالأزهر وأقبل على تحصيل العلم والمعارف، فحضر دروس مشايخ الوقت كالشبراوي والحفني والجوهري ولازم السيد البليدي، واستكتب حاشية على البيضاوي وسافر إلى الحرمين وجاور بهما، وأخذ عن الشيخ محمد حياة والشيخ ابن الطيب، ثم قدم مصر وتوجه منها لدار ملك الورم وأدرك بها بعض ما يروم، وعاشر الأكابر وعرف اللسان وصار منظوراً إليه عند الأعيان، ثم قدم مصر مع بعض أمراء الدولة في أثناء سنة 1172، وانضوى إلى الشيخ السيد محمد أبي هادي بن وفا وكان صغير السن فألفه وأحبه وأدبه وصار يذاكره بالعلم واتحد معه حتى صار مشاراً إليه في الأمور معولاً عليه في المهمات. ولما تولى نقابة السادة الأشراف مضافة إلى خلافة الوفائية كان هو كالكتخدا له في أحواله معتمداً عليه في أفعاله وأقواله، وداوم على ذلك برهة من الزمان وهو نافذ الكلمة مسموع المقال حسن الحركات والأحوال، إلى أن توفي الشيخ المشار إليه فضاقت مصر عليه، فتوجه إلى دار السلطة وقطنها واتخذها داراً وسكنها، وأقبل على الإفادة ونشر العلوم بالإعادة. وبلغني أنه كتب في تلك الأيام شرحاً على بعض متون الفقه في مذهب الإمام، وصار مرجع الخواض والعوام، مقبولاً بالشفاعة عند أرباب الدولة حتى وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله، وكان أودع جملة من كتبه بمصر فأرسل بوقفها برواق الشوام، فوضعوها في خزانة لنفع الطلبة.
ومات الفقيه العلامة الصالح المعمر الشيخ عبد الله بن خزام أبو الطوع الفيومي وغيره، وقدم الجامع الأزهر فأخذ عن فضلاء عصره وهو أحد من يشار إليه في بلده بالفضل، وتولى الإفتاء فسار بغاية التحري، وبلغني من تواضعه أنه كانيأتي إليه أحد العوام فيقول له: حاجتي في بلد كذا فقم معي حتى تقضيها. فيطيعه ويذهب معه الميلين والثلاثة ويقضيها، وقد تكرر ذلك منه، وكان له في كل يوم صدقات الخبز على الفقراء والمساكين يفرقها عليهم بيده ولا يشمئز، وكانت له معرفة تامة في علم المذهب وغيره من الفنون الغريبة كالفلك والهيئة والميقات، وعند آلات لذلك. وكان إنساناً حسناً جامعاً لأدوات الفضائل. توفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الثاني من السنة، ولم يخلف بعده مثله.
ومات الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد الحباك الشافعي الشاذلي تفقه على الشيخ عيسى البراوي وبه تخرج وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد كشك وإليه انتسب، ولما توفي جعل شيخاً على المريدين وسار فيهم سيراً مليحاً. وكان يصلي إماماً بزاوية بقلعة الجبل، وكان شيخاً حسن العشرة لطيف المجاورة طارحاً للنكات متواضعاً وقد صارت له مريدون وأتباع، خاصة غير أتباع شيخه، توفي في يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان من السنة.
ومات من الأمراء الأمير إبراهيم بك أوده باشه خنقه مراد بك عفا الله عنه والمسلمين.